فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْ ** لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال

إذ أعقب ذكر رُكوب الجواد بذكر تبطّن الكاعب للمناسبة، ولم يعقبه بقوله: ولم أقل لخيلي كري كرة، لاختلاف حال الركوبين: ركوب اللّذة وركوب الحَرب.
والركوب حقيقته: اعتلاء الدابّة للسير، وأطلق على الحصول في الفُلك لتشبيههم الفُلك بالدابّة بجامع السير فركوب الدابة يتعدّى بنفسه وركوب الفلك يتعدّى بـ (في) للفرق بين الأصيل واللاحق، وتقدم عند قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها} في سورة هود (41).
و{من الفلك والأنعام} بيان لإبهام {ما} الموصولة في قوله: {ما تركبون}.
وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب، وحذفُ مثله كثير في الكلام.
وإذ قد كان مفعول {تركبون} هنا مبيَّنًا بالفُلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بـ (في) فغلِّبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد، وحُذف العائد بناء على ذلك التغليب.
واستعمال فعل {تركبون} هنا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.
والاستواء الاعتِلاء.
والظهورُ: جمع ظَهر، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك، فهذا أيضًا من التغليب.
والمعنى: على ظهوره وفي بطونه.
فضمير {ظهوره} عائد إلى {ما} الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ.
ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرففِ {على} بنيت على أن للسفينة ظهرًا قال تعالى: {فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28].
وقد جُعل قوله: {لتستووا على ظهوره} توطئة وتمهيدًا للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله: {ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه} أي حينئذٍ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها.
وأجدر بعدم الذهول عنها، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان.
وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام.
وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفًا فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة.
وعطف على {تذكروا نعمة ربّكم} قوله: {وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا}، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة.
وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمنًا على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي.
واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكرًا لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا.
واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة.
والتسخير: التذييل والتطويع.
وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحًا لسبح السفن على مائه، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك، ورصد مهابّ الرياح، ووضع القلوع والمجاذيف، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية.
ولهذا عقب بقوله: {وما كنّا له مُقْرِنين} أي مطيقين، أي بمجرد القوة الجسدية، أي لولا التسخير المذكور، فجملة {وما كُنَّا له مقرنين} في موضع الحال من ضمير {لنا} أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائمًا مقام القوة.
والمُقرن: المطيق، يقال: أقرن، إذا أطاق، قال عمرو بن معديكرب:
لقد علم القبائل ما عُقَيل ** لنا فِي النائبات بمُقْرِنينا

وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث.
وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالمًا إلى أهله.
والانقلاب: الرجوع إلى المكان الذي يفارقه.
والجملة معطوفة على جملة التنزيه عطف الخبر على الإنشاء.
وفي هذا تعريض بتوبيخ المشركين على كفران نعمة الله بالإشراك وبنسبة العجز عن الإحياء بعد الموت لأن المعنى: وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتشكروا بالقلب واللّسان فلم تفعلوا، ولملاحظة هذا المعنى أُكد الخبر.
وفيه تعريض بالمؤمنين بأن يقولوا هذه المقالة كما شكروا لله ما سخر لهم من الفلك والأنعام.
وفيه إشارة إلى أن حق المؤمن أن يكون في أحواله كلها ملاحظًا للحقائق العالية ناظرًا لتقلبات الحياة نظر الحكماء الذين يستدلون ببسائط الأمور على عظيمها. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{حم} الكلامُ فيهِ كالذي مَرَّ في فاتحةِ سورةِ يس خَلاَ أنَّ الظاهرَ على تقديرِ اسميتِه كونُه اسمًا للقرآن لا للسورةِ كما قيلَ: فإنَّ ذلكَ مُخِلٌّ بجزالةِ النظمِ الكريمِ {والكتاب} بالجرِّ على أنه مُقسمٌ بهِ إمَّا ابتداءً أو عطفًا عَلى حم عَلى تقديرِ كونِه مجرورًا بإضمارِ باءِ القسمِ، على أنَّ مدارَ العطفِ المغايرةُ في العُنوانِ، ومناطُ تكريرِ القسمِ المبالغةُ في تأكيدِ مضمونِ الجملةِ القَسَميةِ {المبين} أي البيِّنِ لمن أُنزلَ عليهم لكونِه بلغتِهم وعَلى أساليبِهم، أو المبينِ لطريقِ الهُدى من طريقِ الضلالةِ المُوضحِ لكلِّ مَا يحتاجُ إليهِ في أبوابِ الديانةِ.
{إِنَّا جعلناه قُرْءانًا عَرَبِيًّا} جوابٌ للقسمِ لكنْ لا على أنَّ مرجعَ التأكيدِ جعلُه كذلكَ كما قيلَ بلْ ما هُو غايتُه التي يُعربُ عنها قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فإنَّها المحتاجةُ إلى التحقيقِ والتأكيدِ لكونِها منبئةً عن الاعتناءِ بأمرِهم وإتمام النعمةِ عليهم وإزاحةِ أعذارِهم، أي جعلنَا ذلكَ الكتابِ قرآنا عربيًا لكي تفهمُوه وتحيطُوا بما فيهِ من النظمِ الرائقِ والمَعْنى الفائقِ واتقفُوا على ما يتصمنُّه من الشواهدِ الناطقةِ بخروجِه عن طوقِ البشرِ وتعرفُوا حقَّ النعمةِ في ذلك وتنقطعَ أعذارُكم بالكليةِ.
{وَإِنَّهُ في أُمّ الكتاب} أي في اللوحِ المحفوظِ، فإنَّه أصلُ الكتبِ السماويةِ. وقُرِىءَ إِمِّ الكتابِ بالكسرِ {لَدَيْنَا} أي عندنَا {لَّعَلّى} رفيعٌ القدرِ بينَ الكتبِ شريفٌ.
{حَكِيمٌ} ذُو حَكمةٍ بالغةٍ، أو محكمٌ وهُما خبرانِ لإنَّ وما بينهُمَا بيانٌ لمحلِّ الحكمِ، كأنَّه قيلَ بعدَ بيانِ اتصافِه بما ذُكِرَ منَ الوصفينِ الجليلينِ: هذا في أمِّ الكتابِ ولدينَا. والجملةُ إمَّا عطفٌ على الجملةِ المقسمِ عليها، داخلةٌ في حُكمها ففي الإقسامِ بالقرآن على علوِّ قدرِه عندَهُ تعالى براعةٌ بديعةٌ وإيذانٌ بأنَّه من عُلِّو الشأنِ بحيثُ لا يحتاجُ في بيانِه إلى الاستشهادِ عليهِ بالإقسامِ بغيرهِ بل هُو بذاتِه كافٍ في الشهادةِ على ذلكَ من حيثُ الإقسامُ بهِ كَما أنَّه كافٍ فيها من حيثُ إعجازُه ورمزٌ إلى أنَّه لا يخطرُ بالبالِ عند ذكرِه شيءٌ آخرُ منه بالإقسامِ به. وإمَّا مستأنفةٌ مقررةٌ لعلوِّ شأنِه الذي أنبأَ عنه الإقسامُ به على منهاجِ الاعتراضِ في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وبعدما بيَّنَ علوَّ شأنِ القرآن العظيمِ وحققَ أنَّ إنزالَهُ على لغتِهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبِه عقَّبَ ذلكَ بإنكارِ أنْ يكونَ الأمرُ بخلافهِ فقيلَ {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر} أي ننحّيهِ ونُبعدُه عنكم. مجازٌ من قولهم: ضربُ الغرائبِ عن الحوضِ، وفيه إشعارٌ باقتضاءِ الحكمةِ توجُّهَ الذكر إليهم وملازمتَه لهم كأنَّه يتهافتُ عليهم. والفاءُ للعطفه على محذوفٍ يقتضيِه المقامُ أي أنهملكُم فننحِّى الذكرَ عنكُم {صَفْحًا} أي إعراضًا عنكم على أنه مفعولٌ له للمذكورِ أو مصدرٌ مؤكدٌ لما دَلَّ هو عليهِ فإن التنحيةَ منبئةُ عن الصفحِ والإعراضِ قطعًا كأنَّه قيلَ: أفنصفحُ عنكُم صفحًا أو بمَعْنى الجانبِ فينتصبُ على الظرفيةِ أي أفننحيهِ عنكُم جانبًا {أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} أي لأنْ كنتُم منهمكينَ في الإسرافِ مصرِّينَ عليهِ عَلى مَعْنى إنَّ حالَكُم وإنِ اقتَضَى تخليتَكُم وشأنَكُم حتَّى تموتُوا على الكفرِ والضلالةِ وتبقوا في العذابِ الخالدِ لكنا لسعةِ رحمتِنا لا نفعلُ ذلكَ بلْ نهديكُم إلى الحقِّ بإرسالِ الرسولِ الأمينِ وإنزالِ الكتابِ المبينِ.
وقُرِىءَ بالكسرِ على أنَّ الجملةَ شرطيةٌ مخرِجةٌ للمحققِ مُخرجَ المشكوكِ لاستجهالِهم، والجزاءُ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه.
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ في الأولين وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ} تقريرٌ لما قبلَه ببيانِ أنَّ إسرافَ الأممِ السالفةِ لم يمنعْهُ تعالى من إرسالِ الأنبياءِ إليهم، وتسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاءِ قومِه به.
وقوله تعالى: {يَسْتَهْزِءونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا} أي من هؤلاءِ المسرفينَ، عِدَةٌ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ووعيدٌ لهم بمثلِ ما جَرَى على الأولينَ، ووصفُهم بأشدِّيَّة البطشِ لإثباتِ حكمِهم لهؤلاءِ بطريقِ الأولويةِ.
{ومضى مَثَلُ الأولين} أي سلَف في القرآن غيرَ مرةٍ ذكرُ قِصَّتِهم التي حقُّها أن تسيرَ مسيرَ المثلِ.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} أي ليُسنِدُنَّ خلقَها إلى مَنْ هذا شأنُه في الحقيقةِ وفي نفسِ الأمرِ، لا أنَّهم يُعبِّرونَ عنه بهذا العُنوانِ. وسلوكُ هذه الطريقةِ للإشعارِ بأنَّ اتصافَهُ تعالى بَما سُردَ من جلائلِ الصفاتِ والأفعال وبما يستلزمُه ذلكَ من البعثِ والجزاءِ أمرٌ بينٌ لا ريبَ فيهِ وأنَّ الحجةَ قائمةٌ عليهم شاؤُا أو أبَوا. وقد جُوِّزَ أن يكونَ ذلك عينَ عبارتِهم.
وقوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} استئنافٌ من جهتِه تعالى أي بسَطَها لكُم تستقرُّونَ فيها.
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} تسلكونَها في أسفارِكم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكيْ تهتدُوا بسلوكِها إلى مقاصدِكم أو بالتفكُّر فيها إلى التوحيد الذي هُو المقصدُ الأصليُّ.
{والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ} بمقدارٍ تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَمِ والمصالحِ.
{فَأَنشَرْنَا بِهِ} أي أحيينَا بذلكَ الماءِ {بَلْدَةً مَّيْتًا} خاليًا عن النماءِ والنباتِ بالكُلِّيةِ. وقُرِىءَ مَيِّتَا بالتشديدِ. وتذكيرُه لأنَّ البلدةَ في مَعْنى البلدِ والمكانِ. والالتفاتُ إلى نونِ العظيمةِ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بأمرِ الإحياءِ، والإشعارِ بعِظَمِ خطرِه {كذلك} أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي هو في الحقيقةِ إخراجُ النباتِ من الأرضِ {تُخْرَجُونَ}. أي تُبعثونَ من قبورِكم أحياءً. وفي التعبيرِ عن إخراجِ النباتِ بالإنشارِ الذي هُو إحياءُ المَوتى وعن إحيائِهم بالإخراجِ تفخيمٌ لشأنِ الإنباتِ وتهوينٌ لأمرِ العبثِ لتقويمِ سننِ الاستدلالِ وتوضيحِ منهاجِ القياسِ.
{والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي أصنافَ المخلوقاتِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا الأزواجُ: الضروبُ والأنواعُ كالحُلو والحامضِ والأبيضِ والأسودِ والذكرِ والأُنْثى. وقيلَ: كلُّ ما سِوَى الله تعالى فهو زوجٌ كالفوقِ والتحتِ واليمينِ واليسار إلى غيرِ ذلكَ.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} أي ما تركبونَهُ تغليبًا للأنعامِ على الفلكِ فإن الركوبَ متعدٍ بنفسهِ، واستعمالُه في الفُلكِ ونحوِها بكلمةِ فِي للرمزِ إلى مكانيَّتِها وكونِ حركتِها غيرَ إراديةٍ كما مرَّ في سورةِ هودٍ عندَ قوله تعالى: {وقال اركبوا فِيهَا} {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} أي لتستعلُوا على ظهورِ ما تركبونَهُ من الفُلكِ والأنعامِ، والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي تذكرُوها بقلوبِكم معترفينَ بها مستعظمينَ لها، ثم تحمَدوا عليها بألسنتِكم.
{وَتَقولواْ سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} مُتعجِّبينَ من ذلكَ، كمَا يُروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كانَ إذا وضعَ رجلَهُ في الركابِ قال: «بسم الله فإذَا استوَى على الدابةِ قال الحمدُ لله على كلِّ حالٍ {سُبحانَ الذي سخَّرَ لنا هَذا} إلى قوله تعالى: {لمنقلبونَ} وكبَّر ثلاثًا وهللَّ ثلاثًا» {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مُطيقينَ من أقرنَ الشيءَ إذا أطاقَهُ وأصلُه وجدُه قرينتَه لأن الصعْبَ لا يكونُ قرينةً للضعيفِ. وقُرِىءَ بالتشديدِ، والمَعْنى واحدٌ. وهذا من تمامِ ذكرِ نعمتِه تعالى إذ بدونِ اعترافِ المنعمِ عليه بالعجزِ عن تحصيلِ النعمةِ، لا يعرفُ قدرَها ولا حق المنعمِ بها.
{وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي راجعونَ وفيهِ إيذانٌ بأنَّ حقَّ الراكبِ أنْ يتأملَ فيما يُلابسُه من المسيرِ ويتذكَر منه المسافرةَ العُظْمى التي هيَ الانقلابُ إلى الله تعالى فيبنِى أمورَهُ في مسيرِه ذلكَ على تلكَ الملاحظةِ ولا يخطرُ ببالِه في شيءٍ مما يأتِي ويذرُ أمرًا ينافيها ومن ضرورتِه أن يكون ركوبُه لأمرٍ مشروعٍ. اهـ.

.تفسير الآيات (15- 18):

قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما علم بهذا الاعتراف منه وما تبعه من التقريب أن العالم كله متزاوج بتسخير بعضه لبعض، فثبت أن خالقه مباين له لا يصح أصلًا أن يكون محتاجًا بوجه لأنه لا مثل له أصلًا، كان موضع التعجيب من نسبتهم الولد إليه سبحانه: فقال لافتًا القول عن خطابهم للإعراض المؤذن بالغضب: {وجعلوا} أي ولئن سألتهم ليقولن كذا اللازم منه قطعًا لأنه لا مثل {له} والحال أنهم نسبوا له وصيروا بقولهم قبل سؤالك إياهم نسبة هم حاكمون بها حكمًا لا يتمارون فيه كأنهم متمكنون من ذلك تمكن الجاعل فيه يجعله {من عباده} الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم {جزءًا} أي ولدًا هو لحصرهم إياه في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل فهو جزء من والده، ومن كان له جزء كان محتاجًا فلم يكن إلهًا وذلك لقولهم: الملائكة بنات الله، فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم.
ولما كان هذا في غاية الغلظة من الكفر، قال مؤكدًا لإنكارهم أن يكون عندهم كفر: {إن الإنسان} أي هذا النوع الذي هم بعضه {لكفور مبين} أي مبين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر بيانًا لذلك لكل أحد هذا ما يقتضيه طبعه بما هو عليه من النقص بالشهوات والحظوظ ليبين فضل من حفظه الله بالعقل على من سواه من جميع المخلوقات بمجاهدته لعدو وهو بين جنبيه مع ظهور قدرة الله الباهرة بذلك.
ولما كان كأنه قيل إنكارًا عليهم وتهكمًا بهم حيث لم يرضوا بأن جعلوا لمن إليه الجعل من عباده جزءًا حتى جعلوه شر الجزئين الإناث، وهم أشد الناس نفرة منهن: أوهب له ذلك الجزء الذي جعلتموه إناثًا غيره قسرًا بحيث لم يقدر أن ينفك عنه كما قدم في السورة التي قبله عن نفسه المقدس أنه يهب لمن يشاء إناثًا ولا يقدر على التقصير عنهن بوجه، عادله بقوله عائدًا إلى الخطاب لأنه أقعد في التبكيت على اختيار الغي عن الصواب: {أم اتخذ} أي عالج هو نفسه فأخذ بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم {مما يخلق} أي يجدد إبداعه في كل وقت كما اعترفتم {بنات} فلم يقدر بعد التكليف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزئين إليكم، ونكر لتخصيصهم اتخاذه ببعض هذا الصنف الذي شاركه فيه غيره، وعطف على قوله: {اتخذ} ليكون منفيًا على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار: {وأصفاكم} وهو السيد وأنتم عبيده {بالبنين} أي الجزء الأكمل لديكم المستحق لأن يكون دائمًا مستحضرًا في الخاطر فلذلك عرفه ولأنهم ادعوا أن هذا النوع كله خاص بهم لم يشاركهم في شيء منه، فكان هذا الكفر الثاني أعرق في المحال من الأول للزيادة على مطلق الحاجة بالسفه في أنه رضي بالدون الخسيس فلم يشاركهم في شيء من الأعلى، بل جعل لهم ذلك خالصًا صافيًا عن أدنى ما يشوبه من كدر.